فصل: الإعجاز النظمي للقرآن الكريم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الإعجاز النظمي للقرآن الكريم:

كانت الكثرة الكاثرة من القدامي والمعاصرين علي حد سواء قد ركزوا اهتمامهم علي ناحية نظم القرآن الكريم فهذا ابن عطية الأندلسي (ت 546 هـ) يذكر في مقدمة تفسيره (278/1) ما نصه:
إن الله قد أحاط بكل شيء علما، فإذا ترتبت اللفظة من القرآن، علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولي، وتبين المعني بعد المعني، ثم كذلك من أول القرآن الي آخره، والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن أحدا من البشر لايحيط بذلك، فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوي من الفصاحة، وبهذا يبطل قول من قال: أن العرب كان في قدرتهم الاتيان بمثله فصرفوا عن ذلك، والصحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قط، ولهذا نري البليغ ينقح القصيدة أو الخطبة حولا، ثم ينظر فيها فيغير منها، وهلم جرا، وكتاب الله لو نزعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب علي لفظة أحسن منها لم يوجد... وقامت الحجة علي العالم بالعرب، اذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة.
وهذا هوالأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين أحد العلماء المعاصرين يكتب فصلا في اعجاز القرآن كتقديم لترجمته لكتاب الظاهرة القرآنية للمفكر الإسلامي الأستاذ مالك بن نبي (يرحمه الله) يحدد فيه الاعجاز في دائرة البيان والنظم حيث يقول: أن الآيات القليلة من القرآن، ثم الآيات الكثيرة، ثم القران كله، أي ذلك كان في تلاوته علي سامعيه من العرب، الدليل الذي يطالبه بان يقطع بأن هذا الكلام مفارق لجنس كلام البشر، وذلك من وجه واحد، هو وجه البيان والنظم.
واذا صح أن قليل القرآن وكثيره سواء من هذا الوجه، ثبت أن ما في القرآن جملة، من حقائق الأخبار عن الأمم السابقة، ومن أنباء الغيب، ومن دقائق التشريع، ومن عجائب الدلالات علي مالم يعرفه البشر من أسرار الكون الا بعد القرون المتطاولة من تنزيله، كل ذلك بمعزل عن الذي طولب به العرب، وهو أن يستبينوا في نظمه وبيانه انفكاكه من نظم البشر وبيانهم، ومن وجه يحسم القضاء بأنه كلام رب العالمين... ولكن اذا جاز هذا التحديد علي موقف التحدي من مشركي العرب- على الرغم من عدم وجود الدليل علي ذلك- فانه بالقطع لايجوز علي اطلاقه، خاصة أن العرب اليوم في جملتهم قد فقدوا الحس اللغوي الذي تميز به أسلافهم، وأن التحدي بالقرآن للانس والجن متظاهرين هو تحد مستمر قائم الي يوم الدين، مما يؤكد أن ما في القرآن من أمور الغيب، وحقائق التاريخ، ومن فهم دقيق لمكنون النفس البشرية وحسن الخطاب في هدايتها وإرشادها وتربيتها، ومن مختلف الصور التي ضربت لعجائب آيات الله في خلقه، ومن غير ذلك مما اكتشفه ولايزال يكتشفه (في كتاب الله) متخصصون في كل حقل من حقول المعرفة، لايمكن أن يبقي بمعزل عن ذلك التحدي المفضي الي الاعجاز القرآني، والدال على أن القرآن كلام الله.
نشأة منهج التفسير العلمي لكتاب الله يزخر القرآن الكريم بالعديد من الآيات التي تشير الي الكون وما به من كائنات (أحياء وجمادات)، والي صور من نشأتها، ومراحل تكونها، والي العديد من الظواهر الكونية التي تصاحبها، والسنن الالهية التي تحكمها، وما يستتبعه كل ذلك من استخلاص للعبرة، وتفهم للحكمة، وما يستوجبه من ايمان بالله، وشهادة بكمال صفاته وافعاله، وهو سبحانه وتعالى الخالق الباريء المصور الذي أبدع ذلك الخلق بعلم وقدرة وحكمة لاتحدها حدود، ولايفيها حقها وصف.
وقد أحصي الدارسون من هذه الاشارات الكونية في كتاب الله مايقدر بحوالي الألف آية صريحة، بالاضافة إلي آيات أخري عديدة تقرب دلالاتها من الصراحة، وبدوام اتساع دائرة المعرفة الانسانية، وتكرار تأمل المتأملين في كتاب الله، وتدبر المتدبرين لآياته- جيلا بعد جيل، وعصرا بعد عصر- لن ينفك العلماء والمتخصصون يكتشفون من حقائق الكون الثابتة في كتاب الله مايؤكد علي تحقق الوعد الالهي الذي يقول فيه ربنا تبارك وتعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتي يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه علي كل شيء شهيد} [فصلت: آية 53].
وبدهي أن يتباين موقف العلماء من تلك الاشارات الكونية في كتاب الله بتباين الأفراد وخلفياتهم الثقافية وأزمانهم، وباتساع دائرة المعرفة الانسانية في مجال الدراسات الكونية (التي تعرف اليوم باسم دراسات العلوم البحتة والتطبيقية) من عصر الي عصر، وأول من بسط القول في ذلك الامام الغزالي (ت 505 هـ) في كتابيه إحياء علوم الدين وجواهر القرآن والذي رفع فيهما شعارات عديدة منها أن القرآن الكريم يشمل العلوم جميعاو أن من صور اعجاز القرآن اشتماله علي كل شيء، وأن كل شيء، وأن كل العلوم تشعبت من القرآن، حتي علم الهيئة، والنجوم، والطب الي آخر ماذكر.
وتبع الإمام الغزالي في ذلك كثيرون، كان من أشهرهم في القديم العلامة الشيخ الفخر الرازي (ت 606 هـ)، وفي الحديث فضيلة الشيخ طنطاوي جوهري (ت 1359 هـ)، مما أدي الي بروزالمنهج العلمي في تفسير القرآن الكريم، والذي يعتمد في تفسير الاشارات الكونية الواردة في كتاب الله علي ضوء من معطيات العلوم الحديثة، مع تفاوت في ذلك من عصر الي عصر. ويعتبر تفسير الرازي المعنون مفاتيح الغيب أول تفسير يفيض في بيان المسائل العلمية والفلسفية، خاصة مايتعلق منها بعلم الهيئة، وغير ذلك من العلوم والفنون التي كانت معروفة في زمانه، والتي كان هو علي معرفة بها.
أما تفسير الشيخ طنطاوي جوهري والمعنون الجواهر في تفسير القرآن الكريم فيعتبر أضخم تفسير ينهج النهج العلمي، اذ يقع في خمسة وعشرين جزءا كبارا، حاول فيها الشيخ (يرحمه الله) تفسير القرآن الكريم تفسيرا يتجاوب مع روح العصر، وما وصلت اليه المعارف الانسانية في مجال دراسات الكون ومافيه من أجرام سماوية، ومن عوالم الجمادات والأحياء، ومن الظواهر الكونية التي تصاحبها، والسنن الالهية التي تحكمها، ليبرهن للقاريء أن كتاب الله الخالد قد أحاط بالكون في تفصيل وبيان وايضاح غفل عنه كثير من السابقين، وأنه بحق ينطوي علي كل ما وصل، وماسيصل اليه البشر من معارف.
هذا، وقد نعي الشيخ الجوهري (يرحمه الله) علي علماء المسلمين اهمالهم للجانب العلمي في القرآن الكريم، وتركيز جهودهم علي الجوانب البيانية والفقهية فقط بقوله: لماذا ألف علماء الاسلام عشرات الألوف من الكتب في علم الفقه، وعلم الفقه ليس له في القرآن الا آيات قلائل لاتصل إلي مائة وخمسين آية؟ فلماذا كثر التأليف في علم الفقه، وقل جدا في علوم الكائنات التي لاتكاد تخلو منها سورة؟.
ولذا فاننا نجده في مطلع تفسيره يتوجه بنداء الي المسلمين يقول فيه: يا أمة الاسلام، آيات معدودات في الفرائض (يقصد آيات الميراث) اجتذبت فرعا من علم الرياضيات، فما بالكم أيها الناس بسبعمائة آية فيها عجائب الدنيا كلها... هذا زمان العلوم، وهذا زمان ظهور الاسلام... هذا زمان رقيه، ياليت شعري، لماذا لانعمل في آيات العلوم الكونية مافعله أباؤنا في علوم الميراث؟ ثم يضيف: أن نظام التعليم الاسلامي لابد من ارتقائه، فعلوم البلاغة ليست هي نهاية علوم القرآن بل هي علوم لفظه، وما نكتبها اليوم (يقصد في تفسيره)، علوم معناه.... ولم يكتف الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره بتتبع الآيات واستنتاج معانيها وفق ما ارتآه فيها من اشارات الي مختلف الدراسات الحديثة، بل أنه قد استعان في هذا التفسير- الفريد من نوعه- بكثير من صور النباتات والحيوانات والمظاهر الكونية، والوسائل التجريبية، كما استخدم الآراء الفلسفية عند مختلف المدارس الفكرية، وكذلك الأرقام العددية التي ينظمها حساب الجمل المعروف.
وقد اعتبر المفسرون من بني عصره ذلك المنهج العلمي في التفسير (كما اعتبر من قبل) جنوحا الي الاستطراد في تأويل بعض آيات القرآن الكريم علي غير مقاصدها التشريعية والايمانية، استنادا الي الحقيقة المسلمة أن القرآن لم يأت لكي ينشر بين الناس القوانين العلمية ومعادلاتها، ولاجداول المواد وخصائصها، ولا قوائم بأسماء الكائنات وصفاتها، وانما هو في الأصل كتاب هداية، كتاب عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملات، وهي ركائز الدين التي لا يستطيع الإنسان أن يضع لنفسه فيها ضوابط صحيحة، والقرآن العظيم حين يلفت نظر الانسان الي مختلف مظاهر هذا الوجود إنما يعرض لذلك من قبيل الاستدلال علي قدرة الخالق العظيم وعلمه وحكمته وتدبيره ومن قبيل إقامة الحجة البينة علي الجاحدين من الكافرين والمشركين، ومن قبيل التأكيد علي إحاطة القدرة الإلهية بالكون وبكل مافيه وعلي حاجة الخلق في كل لحظة من لحظات الوجود الي رحمة ذلك الخالق العظيم.
فهذا هو الشيخ محمد رشيد رضا (يرحمه الله) يكتب في مقدمة تفسيره المنار مانصه:..... وقد زاد الفخر الرازي صارخا آخر عن القرآن هو مايورده في تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحادثة في الملة علي ماكانت عليه في عهده، كالهيئة الفلكية اليونانية وغيرها، وقلده بعض المعاصرين (ويقصد الشيخ طنطاوي جوهري) بايراد مثل هذا من علوم العصر وفنونه الكثيرة الواسعة، فهو يذكر فيما يسميه تفسير الآية، فصولا طويلة- بمناسبة كلمة مفردة، كالسماء أو الأرض- من علوم الفلك والنبات والحيوان، تصد القاريء عما أنزل الله لأجله القرآن.
وعلى الرغم من استنكار علماء التفسير لهذا المنهج العلمي قديما وحديثا، الا أن عددا كبيرا من العلماء المسلمين ظل مؤمنا بأن الاشارات الكونية في كتاب الله أي الآيات المتعلقة ببعض أشياء هذا الكون علي اجمالها وتناثرها بين آيات الكتاب المجيد- تبقي بيانا من الله، خالق الكون ومبدع الوجود، ومن ثم فهي حق مطلق، وصورة من صور الاعجاز في كتاب الله- الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- وان ذلك قد لايتضح إلا للراسخين في العلم من المتخصصين في مختلف مجالات العلوم البحتة والتطبيقية (كل في حقل تخصصه)، وحتي هؤلاء يظل يتسع ادراكهم لذلك الاعجاز باتساع دائرة المعرفة الانسانية جيلا بعد جيل، وعصرا بعد عصر، مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى: {إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين} [ص:87 و88] ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصفه للقرآن الكريم بأنه لاتنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد. ومن هنا كان واجب المتخصصين من المسلمين في مختلف مجالات المعرفة الانسانية- في كل عصر وفي كل جيل- أن تنفر منهم طائفة للتسلح بمستلزمات تفسير كتاب الله من المام بقدر كاف من علوم اللغة العربية وآدابها، ومن الحديث وعلومه، والفقه وأصوله، وعلم الكلام وقواعده، مع معرفة بعادات المجتمع العربي الأول، واحاطة بأسباب النزول، وبالمأثور في التفسير، وبالسيرة النبوية المطهرة، وباجتهاد أعلام السابقين من أئمة المفسرين، وغير ذلك من الشروط التي حددها علماء التفسير وأصوله، ثم تقوم تلك الطائفة علي شرح آيات الكتاب الحكيم- كل فيما يخصه- حتي تستبين للناس جوانب من الاعجاز في كتاب الله، لم يكن من السهل بيانها قبل عصر العلم الذي نعيشه. وحتي يتحقق قول الله تعالي في محكم كتابه: {لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون} [الأنعام: آية 67] وانطلاقا من ذلك الفهم، ظهرت مؤلفات عديدة تعالج قضية الإعجاز العلمي في كتاب الله من أشهرها في القديم كتاب كشف الأسرار النورانية القرآنية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية لمحمد بن احمد الاسكندراني الطبيب (وهو من علماء القرن الثالث عشر الهجري). ورسالة عبد الله فكري (وهو من وزراء المعارف السابقين في مصر في مطلع هذا القرن) والتي يقارن فيها بين بعض مباحث علم الهيئة (الفلك) وبين الوارد من نصوص القرآن الكريم في ذلك، وكتاب الاسلام والطب الحديث لعبد العزيز اسماعيل، ورياض المختار لأحمد مختار (الغازي)، وكتابا معجزة القرآن في وصف الكائنات والتفسير العلمي للآيات الكونية لحنفي أحمد، وكتابا في سنن الله الكونية والاسلام في عصر العلم لمحمد أحمد الغمراوي، واعجاز القرآن في علم طبقات الأرض لمحمد محمود ابراهيم، والعلوم الطبيعية في القرآن ليوسف مروة، وسلسلة كتب كل من محمد جمال الدين الفندي وعبد الرزاق نوفل في نفس الموضوع، وكتاب أضواء من القرآن علي الانسان ونشأة الكون والحياة لعبد الغني الخطيب، والقرآن والعلم لأحمد محمود سليمان، ومن اشارات العلوم في القرآن الكريم لعبدالعزيز سيد الأهل، ومحاولة لفهم عصري للقرآن لمصطفي محمود، وتفسير الآيات الكونية لعبد الله شحاتة، والاسلام والعلم التجريبي ليوسف السويدي، والقرآن تفسير الكون والحياة لمحمد العفيفي، وكتاب الانجيل والقرآن والعلم لموريس بوكاي، وكتاب خلق الانسان بين الطب والقرآن لمحمد علي البار، هذا بالاضافة الي ماظهر مؤخرا من كتب ومجلات عديدة وأبواب كثيرة عن الاعجاز العلمي في القرآن وردت مجمعة في كتب اسلامية متعددة، أو متناثرة في كثير من التفاسير التي حررت في النصف الأخير من هذا القرن.
هذا من جهة، ومن جهة أخري فقد تعرض هذا المنهج- بحق أحيانا، وبغير ذلك في أحيان أخري كثيرة- للمزيد من النقد والتجريح الذي أسس على أن معجزة القرآن هي في الأصل معجزة بيانه الذي أدرك اساطين اللغة العربية فيه، ومنذ سماع أولي آياته، أنه علامة فارقة بين كلام الله وكلام البشر، وأن علينا أن نفهم الاسلام كما بينه نبي الاسلام (صلوات الله وسلامه عليه) وكان من شواهد ذلك ومبرراته حيود عدد من الذين تعرضوا للقضايا الكونية في القرآن عن جادة الطريق إما عن قصور في فهم الحقائق العلمية، أو انتفاء لشروط القدرة علي الاجتهاد في التفسير، أو لكليهما معا، وعلى الرغم من ذلك كله، فقد تمكن هذا السيل من الكتابات عن الاعجاز العلمي في آي القرآن الكريم من تهيئة النفوس لقبول ذلك المنهج، حتي قام المجلس الاعلي للشئون الاسلامية في مصر بتشكيل عدد من اللجان العلمية التي ضمت الي علماء القرآن وتفسيره، والحديث ورجاله والفقه وأصوله، والشريعة وعلومها، واللغة العربية وآدابها، والتاريخ الاسلامي وتفاصيله، عددا من كبار العلماء والباحثين والمفكرين في مختلف جنبات المعرفة الانسانية، وقد قام كل هؤلاء بمدارسة كتاب الله في اجتماعات طالت لسنين كثيرة، ثم تبلورت في تفسير موجز تحت اسم المنتخب في تفسير القرآن، كتب بأسلوب عصري وجيز، سهل مبسط، واضح العبارة، بعيد عن الخلافات المذهبية، والتعقيدات اللفظية والمصطلحات الفنية، وقد أشير في هوامشه الي ماترشد اليه الآيات القرآنية من نواميس الحياة وأسرار الكون، ووقائعه العلمية التي لم تعرف الا في السنوات الأخيرة، والتي خصها ذلك التفسير في مقدمته بأنه لايمكن الا أن يكون القرآن قد أشار اليها لأنه ليس من كلام البشر، ولكنه من كلام خلاق القوي والقدر، الذي وعد بذلك في محكم هذا الكتاب فقال: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتي يتبين لهم أنه الحق او لم يكف بربك أنه علي كل شيء شهيد} [فصلت: آية 53] كما تمت الاشارة في مقدمة هذا التفسير الوجيز إلي أنه سيتلوه تفسير آخر وسيط في شيء من البسط والتفصيل يليه المفصل إن شاء الله تعالي.

.حجة المعارضين لتعبير الإعجاز العلمي في القرآن الكريم:

وقبل استعراض مواقف المفسرين في عصرنا الحاضر من الآيات الكونية في كتاب الله (أي الآيات التي تحتوي علي إشارات لبعض أشياء هذا الكون من مثل السماوات والأرض، والشمس والقمر، والنجوم والكواكب، والجبال والأحجار، والأنهار والبحار، والرياح والسحاب والمياه، والرعد والبرق، ومراحل الجنين في الإنسان، وبعض صور الحيوان ومنتجاته والنبات، ومحاصيله وثماره وغير ذلك) لابد لنا من الإشارة الي أن بعض الكتاب من القدامي والمعاصرين- علي حد سواء.. قد اعترض علي استخدام لفظ معجزة ومشتقاته في الإشارة الي عجز الإنسان عن الإتيان بمثل هذا القرآن أو بشئ من مثله، أو إلي أستعصاء تقليد القرآن الكريم علي الجهد البشري واستعلائه عليه، لأنه كلام الله تعالي، المغاير لكلام البشر جملة وتفصيلا، ولو أنه أنزل بأسلوب يفهمه البشر وقت نزوله وفي كل عصر من العصور التالية لنزوله إلي أن يرث الله تعالي الأرض ومن عليها.
وحجة المعترضين علي لفظ معجزة ومشتقاته تقوم علي أساس من أن اللفظ لم يرد له ذكر في كتاب الله بالمعني الشائع اليوم، ولا في الصحيح من الأحاديث النبوية الشريفة وإن وردت مشتقاته للدلالة علي عدد من المعاني القريبة أو المغايرة قليلا لذلك في ستة وعشرين موضعا من القرآن الكريم بألفاظ أعجز، ومعجزين، ومعاجزين وعجوز وأعجاز وتصريفاتها ودلالاتها في تلك المواضع قد تبعد قليلا عما أريد التعبير عنه بلفظ المعجزة عند علماء اللغة، خاصة أن القرآن الكريم قد أشار دوما إلي مدلول المعجزة بلفظ آية (بصيغة المفرد والمثني والجمع) في أكثر من 380 موضعا منها قول الحق تبارك وتعالى: {وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه} [الأنعام: أية 37].
وقوله عز من قائل: {وقال الذين لايعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية} [البقرة: آية 118].
وقوله تعالى: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ماتبعوا قبلتك} [البقرة: أية 145].
وقوله: {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة} [البقرة: آية 211].
وقوله تعالى على لسان أحد أنبياء بني إسرائيل: {وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت} {إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين} [البقرة: آية 248].
قوله تعالى على لسان نبيه صالح عليه السلام مخاطبا قومه: {هذه ناقة الله لكم آية} [الأعراف: الآية 73].
وقوله على لسان فرعون وقومه وهم يعارضون سيدنا موسي (على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم): {وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين} [الأعراف: آية 132].
وهذه حجة مردودة لأن التعبير عن إعجاز القرآن قد استخدم منذ القرون الهجرية الأولي، ولم يجد علماء المسلمين من الصحابة والتابعين غضاضة في استخدام هذا التعبير على الرغم من عدم وروده بهذا المعني في كتاب الله. اهـ.